ـ لا تحزن يا أبي... بإذن الله سأعيد صباغة الأصواف، وستكون أفضل ممَّا سبق...
التفت أبو أحمد إلى ابنه فوجد دمعتين تنسابان بهدوء إلى وجنتيه، اقترب منه كثيراً، وطبع على جبهته قبلة دامعة، وقال:
ـ أنا يا ولدي لم أحزن يوماً على قضاء الله وقدره... أليست هذه حالنا في كل نيسان؟! صحيح أن فيضان هذا العام كان مأساوياً، لكن الله لن يتخلى عنا لأننا صالحون. الله يشهد أنني لم أرتكب إثماً أو جناية، ولم أطعمكم إلا الحلال. كل ما أطلبه من الله تعالى اللطف بنا، وأن يبقيك وأختك ذخراً وسنداً... أنت يا ولدي ما زلت شاباً وعندما تتزوج إن شاء الله، وتكوِّن أسرة، ستعرف الكثير عن معاناة الأب.
ـ أبي... ليس الزواج هاجسي الآن... أريدك أن ترتاح، وتترك العمل لي، لأعوّضك عن الكثير من الذي فقدته...
ـ أنت يا ولدي بحاجة إلى المال لتتزوج... أريد أن أفرح بك قبل أن يسترد الله أمانته.
ـ بعد عمر طويل يا أبي، وإن شاء الله سترى أولادي وأحفادي.
هزّ أبو أحمد رأسه مراراً، ثمَّ اقترب من ولده، وضمّه بحنان إلى صدره، بينما كانت زوجته وابنته تلملمان حوائج البيت المتناثرة.
كان اللغط قوياً أمام البيت وعند الجيران، اختلطت الأصوات الرعناء بالبكاء والنحيب، وكان ثمَّة صوت شنّفت له أذنا أبي أحمد، وقد هزّ له رأسه مراراً... إنه صوت (الكسّاري) وهو يشدو بشِعر شعبي يثير النخوة والحميّة لدى الآخرين، فيردد كل من كان يعمل معه عبارة يشير إليها عندما ينتهي من إنشادها...
ألقى أبو أحمد بصره إلى السماء... كانت صافية إلا من ذؤابات شائبة، والشمس تبث أطيافها السحرية بين أغصان الأشجار وشقوق الجدران، ليلوّن الغثاء بألوان قوس قزح...
تأمل أبو أحمد النهر والشجر ووجوه المارة، وأصاخ السمع إلى أصوات البلابل المبعثرة على الأشجار، فوجدها لا تقلّ عذوبة عن صوت الكسّاري... لكن نكبات النهر طغت على كل ما هو جميل وعذب وممتع، فأشاح وجهه وخطا خطوات ثقيلة، وقبل أن يبتلعه الزقاق، قال لولده: